الأحد، 14 سبتمبر 2025

البيوت التي تسكننا

مقالات محمد ولد إمام

 

البيوت ليست حجارة وأبواباً فقط، لكنها أمكنة تتنفس معنا وتشيخ حين نشيخ. في كتابه البيوت أسرار الروح كتب الفيلسوف والمعماري غاستون باشلار: إن البيت هو أحد أعظم قوى دمج الأفكار والذكريات والأحلام، فكل بيت نسكنه يترك فينا أثراً ما، لكن قليلاً من البيوت ما يسكننا إلى الأبد.

كم من دار نمرّ بها كما يمرّ القطار بمحطات لا يحفظ أسماءها، وكم من بيت صغير ظلّ يعيش في قلوبنا حتى مهما رحلنا وتنقلنا.

إن الحنين ليس للأثاث ولا للجدران، بل لذلك الشعور بالأمان الأول الذي لا يتكرر.

وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا..
على رأي المجنون.

أذكر بيتنا القديم، كما قال نزار في حواره مع تلك الإسبانية:
ورأيتُ منزلنا القديمَ وحجرةً
كانت بها أمي تمدّ وسادي..
أنا كذلك أتذكر كل ملامح وزوايا بيتنا القديم الذي كان متواضعا، ومع ذلك ظلّ أوفى من شقق المدن الحديثة. كنت أجد فيه روائح طفولتي تتدلى من السقف كعناقيد العنب، كأن الجدران نفسها تحفظ صوتي وأنا طفل وأسترجع كل تفاصيل حياتنا السابقة.
قرأت مرة في دراسة عن الذاكرة المكانية نشرها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الباحثين وجدوا أن البيوت الأولى في حياة الإنسان تُخزَّن في مناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة العاطفية، ولهذا تبدو أقوى من غيرها في الوجدان.

 

حين نتحدث عن الديار أو البيوت فنحن نتحدث عن ألبومات حياة: ضحكات، بكاء، طقوس الصباح، مشهد النافذة، والأبواب القديمة التي تفتح على دهاليز القلب. ربما لذلك قال الشاعر الفرنسي بول فاليري إن البيت هو أول كون للإنسان كل شيء بعده مجرد امتداد.

 

لهذا، فإن البيوت التي تسكننا لا تموت حتى لو هُدمت. بل تتحول إلى قصائد، أو إلى صور في العقل، أو إلى رؤى في الأحلام.

في سيرته الأيام يقول طه حسين إن بيت طفولته في الريف ظلّ يزوره في المنام حتى وهو في باريس.

أعتقد كذلك أن بيوتنا ليست حجرا صلداً لكنها أوطان داخلية إن جاز التعبير.

 

كلنا نحمل بيوتا وديارا في صدورنا من حكايات وأصوات وألوان، نسكنها كلما ضاقت بنا الأمكنة.

والوفاء للبيت الذي يسكننا ليس بأن نعود إليه جسداً بالضرورة، بل بأن نحافظ على قيمه ومعانيه ونور أهله في أرواحنا وذكرياتنا معهم.

اقرأ أيضــــاً "على هامش العمر"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق