الاثنين، 27 أكتوبر 2025

ذكريات من معارض الكتب!

 

خلال حفل توقيع "كشكول الحياة" بعرض الدوحة للكتاب 2020



لم تكن معارض الكتاب بالنسبة إلي مجرد أسواق لبيع الورق، لكنها كانت عوالم صغيرة تفيض بالحلم والدهشة واللقاءات التي لا تنسى، أشبه بمواسم صيد الغزلان، حيث تنبت الكتب على الرفوف كما تنبت الأزهار في الحدائق، ويصبح الهواء أثقل بالمعرفة وأخف بالفرح.

 

أول المعارض التي علقت في ذاكرتي كانت معارض القاهرة الدولية أيام دراستي بالقاهرة. كانت تلك السنوات محطات مهمة وشائقة من العمر، حملت منها رائحة الورق وأصوات الباعة وضحكات الأصدقاء، ورغبة عارمة في أن أمتلك الدنيا كلها بين دفتين.

 

كنت أتجول بين الأجنحة كما يتجول طفل في متجر حلوى، أضع ميزانيتي الصغيرة في جيبي، وأحاول أن أشتري بها ما لا يشترى. كانت المنحة تتأخر، والأسعار ترتفع، ورفوف الكتب تغويني كأنها كنوز من زمن غابر.
أتذكر أول نسخة من ديوان أبي الطيب، ومن حديث الأربعاء لطه حسين، ومن القاموس العملاق Longman Language Activator.

أتذكر تلك اللحظات كأنها عيد صغير، فقد كنت أراها بوابة إلى عالم جديد ومثير، أقلب صفحاتها كمن يتعرف على القارة الأولى في حياته.

وأتذكر كيف أغرمت بدواوين نزار قباني، وخصوصاً الأعمال السياسية، تلك التي كانت تتنفس بمرارة زمنها وتمرد شاعرها. كانت قصائده تربكني وتحرضني وتشعل شيئاً في داخلي لم أكن أعرف له اسماً بعد.

ومن أجنحة دار الهلال خرجت محملاً بترجمات لأسماء كنت أتهجاها ببطء: دوستويفسكي، تولستوي، نوبوكوف... كنت أفتح كتبهم كما يفتح باب على قارة بعيدة، وأغلقها وقد تغير شيء في نظرتي إلى الإنسان والعالم والمصير.

 

ثم هناك مرتعي ومجر عوالي، أي سور الأزبكية حيث الكتب المستعملة الرحيمة بجيوبنا نحن الطلبة، وفيها يجد الباحث مبتغاه وربما عدت بكتاب عليه إهداء أو عبارات حب ولعل شخصا باع كتبه لدواعٍ قاهرة كما عدت الضرورة الأديب الفالي إلى بيع كتاب الجمهرة فكتب أبياته الشهيرة:

أنست بها عشرين حولا وبعتها
وقد طال وجدي بعدها وحنيني   

 وما كان ظني أنني سأبيعها

ولو خلدتني في السجون ديوني   

 ولكن لعجز وافتقار وصبية

صغار عليهم تستهل شؤوني    

وقد تخرج الحاجات يا أم مالك

كرائم من رب بهن ضنين..

ويقال إن تلك النسخة وقعت في يد الشريف المرتضى فأعادها إليه مع ثمنها.
وفي سور الأزبكية ربما صادف المرء أشياء من هذا النوع.

وعند شراء الكتب المستعملة أشعر دائماً أن بين دفّات تلك الكتب أنين من مروا قبلي، وبصماتهم الخفية على الورق.


معرض الدوحة الدولي للكتاب 2020

فكنت أعود من المعرض مثقلاً بالكتب وخفيفاً من الهم، كأنني اشتريت خلاصاً مؤقتاً من ثقل العالم. أحياناً كنت أشتري الكتاب نفسه مرتين، وأقول في نفسي: “لا بأس، ستكون واحدة للقراءة، وأخرى للهدايا.”

 

مع مرور السنوات صرت أضع خطة لكل معرض أزوره: يوم أول للاستطلاع، ويوم ثان للاقتناء، ويوم أخير للمساومات والصفقات الرخيصة، حين تحاول دور النشر التخلص من أثقالها قبل الرحيل. كانت تلك اللحظات في آخر يوم من المعرض تشبه وداع صديق قديم لا تعرف متى تلقاه من جديد.

 

زرت بعد تلك السنوات معارض شتى وأقمت حفلات توقيع لبعض دواويني ولكتاب كشكول الحياة، ولكل معرض نكهته وسحره. غير أن القاهرة كانت شيئاً آخر، كانت كتاباً مفتوحاً على الذاكرة، يختلط فيه عبق التاريخ بصوت الباعة ودفء الوجوه. هناك تعلمت أن الكتاب ليس سلعة تشترى، بل حياة تعاش.

فالكتب يا أصدقاء، ليست أوراقاً تقلب، لكنها مرايا تريك نفسك التي ضاعت منك، وتعيد إليك دهشة الأيام التي كانت تلمع مثل الحبر الطري على الورق.

محمد ولد إمام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق