رثاء الوليد بن طريف.. حين تبكي الأخت شقيقها
من بين أصفى الرثائيات وأشدها شفافية في اللفظ والمعنى، مرثاة الفارعة أخت الوليد بن طريف الشيباني الخارجي.
قُتل الوليد على يد القائد يزيد بن مزيد الشيباني، أحد قادة هارون الرشيد، وكان الوليد قد خرج على الدولة العباسية، فواجهه يزيد ببأسه وحيلته، وقتله وقطع رأسه.
حينها، انفجر قلب أخته شعراً، فأنشدت أبياتاً تُشبه النواح المقدس، تتفجّر حزناً ووجداً، تندب فيها أخاها الذي رأت فيه مجداً نادراً:
بتلِّ نباثا رسم قبرٍ كأنّهعلى علمٍ فوق الجبال منيفِتضمَّن جوداً حاتمياً ونائلاًوسَورة مقدامٍ وقلبَ حصيفِ
لقد رأت في أخيها قمراً انطفأ، وشمساً مالت إلى كسوف، وعاتبت الطبيعة على برودها، إذ ظلت أشجار الخابور مورقة كأن شيئاً لم يكن:
أيا شجر الخابور! مالكَ مورقاًكأنّك لم تجزع على ابن طريف؟!
الرثاء.. حوار مع الغياب
الرثاء ليس مجرد بكاء على الميت، بل هو في كثير من الأحيان حوار مع القبر، ومساءلة للحياة عن قسوتها. لقد فعل ذلك أبو الطيب المتنبي حين خاطب المنون:
غدرتَ يا موتُ كم أفنيتَ من عددٍ
بمَن أصبتَ وكم أسكتَّ من لجبِ
وقوله في رثاء فاتك:
ولا ما تضمُّ إلى صدرهاولو علمت هالَها ضمّهُ
وقال أبو تمام في ذات السياق:
إنّ الصفائح منك قد نُضِدتْ علىملقى عظام ٍ– لو علمتِ – عظامِ
الرثاء يكشف هشاشتنا، ويفضح قسوة الكون في استمرار دورته، بينما قلوبنا تتفتت على الغياب.
ما آلم الفارعة لم يكن موت أخيها وحده، بل أن ترى الطبيعة ماضية في خضرتها، غير عابئة بأن ركناً عظيماً من العالم قد انهار. الشجر أخضر، والأنهار تجري، والسماء صافية… بينما قلبها وحده مظلم.
كأن الكون، ببروده هذا، يُذكّرنا بأن ما نفقده نحن لا يعنيه شيئاً.
إنه لغز الرثاء: أن تدرك أن الحزن شخصي، وأن العالم يواصل رتابته، وكأنك لم تخسر شيئاً.
ولعل بكاء الأخوات على إخوتهم يحمل نغمة خاصة، لا نجدها في غيره. نقرأ للخنساء فنبكي معها على صخر، كأنه أخونا نحن. نقرأ للفارعة فنحس أن دمها يختلط بالحبر.
إنه البكاء الذي يفتح فينا أعماقاً لم نكن ندري بوجودها.
ربما كان أعظم ما يتركه الرثاء فينا أنه يعيد ترتيب علاقتنا بالحياة. فلولا فقد الأحبة، لما تذكّرنا أن الدنيا هشيم تذروه الرياح. ولولا نزف الجراح، لما عرفنا كيف نشارك آلام الآخرين ونبتهل معاً إلى بارئنا.
ولولا صخب الشعراء الحمقى، لما أنصتنا بتوق إلى همس العظماء الذين تركوا كلماتهم لنا كأضواء بعيدة تهدينا في العتمة.
الرثاء ليس فناً أدبياً فقط، بل هو مرآة تضعها الروح أمام وجهها لتسأل: من نحن؟ وما الذي يبقى بعد أن يذهب الأحبة؟
محمد ولد إمام.. الدوحة 2019
مزيد في الأدب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق