الاثنين، 1 سبتمبر 2025

الشعر والنحو: حين يصبح البيان ميزانًا

الشعر والنحو: حين يصبح البيان ميزانًا

لم تكن شواهد النحو الشعرية التي اصطفاها النحويون مجرد أمثلة لتوكيد القاعدة أو تأييدها تمثيلًا بعد درسها تجريدًا. لقد كانت هذه الشواهد تحمل وظيفتين، إحداهما جمالية تُبهر الذائقة وتفتح دروب الخيال، والأخرى أخلاقية تربوية، تبذر في النفس مكارم الشيم وتُنمّي شعور الانتماء والفخر.

فالشعر كان دومًا مرآةَ وجدانٍ جمعي، ورسولًا يتنقل من جيلٍ إلى جيل، لا يُستدعى لمحض الترويح، بل ليقوم بدور المُؤدب والمُعلّم والناقل لهوية الأمة. لذلك كان أدباء العرب ومُعلّموهم يُربّون الأبناء على حفظ الشعر، ويُلقّنونه لأبناء البيوت الرفيعة، حرصًا على بناء الشخصية واستقامة الروح، فالشعر عندهم غِراس القيم ونبعُ الفروسية والوفاء والعزة.

ولولا خلالٌ سَنّها الشعرُ ما درى
بناةُ العُلا من أينَ تُؤتى المكارمُ

وقد رُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "مُر من قِبلك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معاني الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب".

ويُروى عن معاوية قوله: "ينبغي للرجل أن يُؤدّب ابنه، والشعر أعلى مراتب الأدب"، بل زاد فقال: "اجعلوا الشعر أكثر أدبكم وأكبر همّكم".

انظر مثلًا إلى شاهدهم في توسط خبر "كان" بين اسمها وبينها، بقول السموأل:

سَلي -إن جَهِلتِ الناسَ- عنا وعنهمُ
فَلَيسَ سواءً عالِمٌ وَجَهولُ

فإذا أعجبك البيت، فتشت عن سياقه، فإذ بك أمام أبيات تفيض عزة:

تُعَيِّرُنا أنَّا قَليلٌ عَديدُنا
فَقُلتُ لَها: إِنَّ الكِرامَ قَليلُ
وَما قَلَّ مَن كانَت بَقاياهُ مِثلَنا
شَبابٌ تَسامى لِلعُلى وَكُهولُ
وَما ضَرَّنا أَنّا قَليلٌ وَجارُنا
عَزيزٌ وَجارُ الأَكثَرينَ ذَليلُ

ويصعد بالمعنى في أبيات تمثّل المجد في صورة جبلٍ شاهق:

لَنا جَبَلٌ يَحتَلُّهُ مَن نُجيرُهُ
مَنيعٌ يَرُدُّ الطَرفَ وَهُوَ كَليلُ
رَسا أَصلُهُ تَحتَ الثَرى وَسَما بِهِ
إِلى النَجمِ فَرعٌ لا يُنالُ طَويلُ
هُوَ الأَبلَقُ الفَردُ الَّذي شاعَ ذِكرُه
يَعِزُّ عَلى مَن رامَهُ وَيَطولُ

ثم يستطرد الشاعر في ضرب الأمثال، فيقول:

إِذا المَرءُ لَم يَدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ
فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ
وَإِن هو لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها
فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ

ويتابع بتفنيد خصومه من قبيلتي عامر وسلول:

وَإِنّا لَقَومٌ لا نَرى القَتلَ سُبَّةً
إِذا ما رَأَتهُ عامِرٌ وَسَلولُ
يُقَرِّبُ حُبُّ المَوتِ آجالَنا لَنا
وَتَكرَهُهُ آجالُهُم فَتَطولُ
وَما ماتَ مِنّا سَيِّدٌ حَتفَ أَنفِهِ
وَلا طُلَّ مِنّا حَيثُ كانَ قَتيلُ
تَسيلُ عَلى حَدِّ الظُباتِ نُفوسُنا
وَلَيسَت عَلى غَيرِ الظُباتِ تَسيلُ

ثم يأتي على ذكر النسب الأصيل:

صَفَونا فَلَم نَكدُر وَأَخلَصَ سِرَّنا
إِناثٌ أَطابَت حَملَنا وَفُحولُ
فَنَحنُ كَماءِ المُزنِ ما في نِصابِنا
كَهامٌ وَلا فينا يُعَدُّ بَخيلُ

ومن أبدع ما قال، حين يفتخر بقوة بيانه:

وَنُنكِرُ إِن شِئنا عَلى الناسِ قَولَهُم
وَلا يُنكِرونَ القَولَ حينَ نَقولُ
إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ
قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ

ويواصل وصفهم:

وَما أُخمِدَت نارٌ لَنا دونَ طارِقٍ
وَلا ذَمَّنا في النازِلينَ نَزيلُ
وَأَيّامُنا مَشهورَةٌ في عَدُوِّنا
لَها غُرَرٌ مَعلومَةٌ وَحُجولُ
وَأَسيافُنا في كُلِّ شَرقٍ وَمغرِبٍ
بِها مِن قِراعِ الدارِعينَ فُلولُ
مُعَوَّدَةٌ أَلّا تُسَلَّ نِصالُها
فَتُغمَدَ حَتّى يُستَباحَ قَبيلُ
سَلي إِن جَهِلتِ الناسَ عَنّا وَعَنهُمُ
فَلَيسَ سَواءً عالِمٌ وَجَهولُ

هذا هو الشعر حين يكون بيانًا وميزانًا. وحين تكون اللغة فيه رحمًا ينجب المجد، وسيفًا يصون الكرامة.
محمد ولد إمام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق