صدر حديثًا عن دار "قطر الندى"، للإعلامي الموريتاني محمد ولد إمام كتاب اختار له عنوانًا: "كشكول الحياة، قراءات في الحياة والناس". وهو كتاب لطيف المحمل، خفيف الظل، مغرٍ بالقراءة.
أول ما يلفت انتباهك – وأنت تتلمس طريقك إلى نصوص الكتاب، عبر عتبتها الرئيسة (العنوان) – هو "قطبية الحياة" ومركزيتها؛ فعنوان الكتاب الرئيس "كشكول الحياة"، وعنوانه الفرعي "قراءات في الحياة.."
الحياة آخذة موقعها في النسيج اللغوي للعنوانين معًا: مَخْتمًا في الأول، ومبدأ في الثاني. فهي بؤرة الاهتمام، والغاية التي تلحّ على الكاتب، وتدفعه للتعبير عنها.. فعن أي حياة يتحدث المؤلف؟ وما ثمرة قراءته لها؟
أحيانًا يتحفك بوقفات نقدية لطيفة تتوجه إلى إنتاج شاعر العربية الأول (المتنبي)، وربما تجد نفسك وجهًا لوجه في حوارات دينية عاصفة
قبل أن نجيب عن ذين السؤالين، نشير إلى أن القراءة – والكتاب قراءات في الحياة – فعل تأويلي، يبتغي من ورائه "القارئ" استبطان "المقروء" واستكناهه، وسبر أغواره لتقريبه – كما يراه هو – من المتلقي.
الكتاب – إذن – انعكاس لتجارب ذاتية "حية" خاضها المؤلف، فعبّر عنها ضمن مواقف، ومبادئ، ومشاهد متعددة؛ فطَورًا يحلق بك في فضاء التصوف والفلسفة، وطورًا ينزلك في أماكن أودعها الدهر بعض أسراره. وحينًا تستمتع معه بالقراءة لأعلام عرب: كطه حسين، والمازني، وتوفيق الحكيم، وأحمد شاكر، ونجيب محفوظ.. وأعلام غربيين كفولتير، وسارتر، وديكنز، وديستويفسكي، وتشيخوف.. وأحيانًا يتحفك بوقفات نقدية لطيفة تتوجه إلى إنتاج شاعر العربية الأول (المتنبي)، وربما تجد نفسك وجهًا لوجه في حوارات دينية عاصفة، أو تجارب في الترجمة والإعلام قاسية، وأخيرًا ينحو بك المؤلف نحو تجارب تعكس عشقه للغة العربية إنتاجًا، وتصحيحًا، ورقمنة.
يمدُّك الكتاب بمفاتيح يصرح ببعضها تصريحًا، ويلمح إلى بعضها تلميحًا
الحياة مفهوم عصي على التحديد؛ وشيء لا يكاد يمسك به.. إنها عبارة عما "يحدث لنا بينما نخطط لأشياء أخرى"!. فهي مثل اللحظة المثيرة التي نعيشها؛ إذ نستمتع بها في غفلة من الزمن، فإن نحن أردنا توثيقها وملاحظتها خرجت من بين أيدينا!
ومن مقومات الحياة المميزة أنها "قصيرة وتافهة"! فـ"نحن هنا للحظة على ذرة غبار"، فـ"لِمَ الخصومة والغضب؟"!
ولئن كان وصف الحياة بالقِصر أمرًا سائغًا لاعتبارات كثيرة، أهمها ضآلة نصيب الإنسان من الزمن في سيرورته الممتدة منذ كان، فإن وصمها بالتافهة إنما أريد منه أن يسمو الإنسان فيها بفكره وسلوكه، ويعلو على كثير من حظوظ النفس وهواجسها، وأمراض القلوب ووساوسها، كالكبر والعجب والحسد، وكالقلق والغضب واليأس!
"يجب ألا نبيت على ضغينة أو حقد لأي أحد، ولنعامل من نلقى من الناس معاملتنا للمسافرين معنا على قطار مهما كانوا سيئين"!.. "أعظم جناية – وربما حماقة – أن تحسد أحدًا على شيء"!.. لنعمل على "إسعاد من حولنا".
"تفاهة" الحياة تدفع المرء إلى التحلي بالقيم والمثل العليا، وقِصرها يجعل منها كنزًا ثمينًا يتقلص ويتصرم باطّراد، على الإنسان السويّ أن يستثمره قبل نفاده ونضوبه.
لكن كيف ذلك؟ يمدُّك الكتاب بمفاتيح يصرح ببعضها تصريحًا، ويلمح إلى بعضها تلميحًا.
في أحد العناوين يتساءل الكاتب: "هل يشوه فيسبوك وأمثاله عقولنا؟".. ويعبر عن امتعاضه من شيوع ثقافة الإعجاب الفارغة، فيسخر من رواد منصات النشر في الواقع الافتراضي، قائلًا: غدا العثور على شخص عادي غير عبقري، أو مبدع، أمرًا أقرب إلى الحلم!
ومن مظاهر استثمار الحياة
- تقوية الصلة بالله: "لا شيء مهمًّا -على المدى الطويل- سوى العلاقة مع الله".
- المضي في البحث عن "الحقيقة والحياة والموت والكون".
- تبنّي التخطيط قريب المدى، ونبذ التسويف: "علينا العمل على أهدافنا دائمًا.. ونحن طلاب، ونحن موظفون، ونحن في الغربة".
- الابتعاد عن النزوع المادي الاستهلاكي، والتخفف من الكماليات؛ ففي العلاقة مع "الأسرة" و"الأصدقاء" بدائل عن ذلك.
- اقتناص لحظات للخلو بالنفس: تأملًا وتدبرًا وتفكرًا: "أعتقد أن الخلوة.. جزء مهم جدًا من حياتنا".
- السعي إلى إدخال السرور على قلوب البشر، ولو لم تربطك بهم علاقة؛ فذلك "من أهم أسباب السعادة.. لا شيء يعدل عندي ذلك الشعور"!.
- النهم في القراءة بوصفها سياحة في رياض الأفكار، ونزهة في عقول الناس، على أن تكون قراءتنا محكومة بقواعد تربوية وفكرية صارمة: "علينا أن نقرأ بتمعن وبروح نقدية".
- عقد علاقة حب مع الأماكن القديمة؛ سعيًا إلى المتعة والعبرة معًا: "إن في الوقوف في هذه الأماكن القديمة، وتأمل هذه الآثار، تجربة لا توصف"!.
- الإفادة مما توفره التقنية الحديثة من إمكانات التوثيق والأرشفة لحفظ ما ينفع الناس، ويمكث في الأرض، فـ "ترك الإنسان أثرًا طيبًا وراءه ينتفع به الناس هو هدف سامٍ ونبيل".
- التعامل بحذر مع وسائل التواصل الاجتماعي؛ ففي أحد العناوين يتساءل الكاتب: "هل يشوه فيسبوك وأمثاله عقولنا؟".. ويعبر عن امتعاضه من شيوع ثقافة الإعجاب الفارغة، فيسخر من رواد منصات النشر في الواقع الافتراضي، قائلًا: "غدا العثور على شخص عادي غير عبقري، أو مبدع، أمرًا أقرب إلى الحلم!. فكل ما يكتب إبداع، درر، وكل من يكتب مبدع، محلل عبقري"!.
والخلاصة أن الوعي بالزمن وإكراهاته، والإيمان بالقيم الكونية، والوجد باللغة العربية، من أبرز ملامح التجربة المبثوثة في تلافيف الكتاب، تلك التجربة التي تستمد ذاتها من رافدين: رافد مهني يمثله الإعلام والترجمة، وآخر إبداعي يعكسه الشعر.