الأحد، 14 سبتمبر 2025

البيوت التي تسكننا

مقالات محمد ولد إمام

 

البيوت ليست حجارة وأبواباً فقط، لكنها أمكنة تتنفس معنا وتشيخ حين نشيخ. في كتابه البيوت أسرار الروح كتب الفيلسوف والمعماري غاستون باشلار: إن البيت هو أحد أعظم قوى دمج الأفكار والذكريات والأحلام، فكل بيت نسكنه يترك فينا أثراً ما، لكن قليلاً من البيوت ما يسكننا إلى الأبد.

كم من دار نمرّ بها كما يمرّ القطار بمحطات لا يحفظ أسماءها، وكم من بيت صغير ظلّ يعيش في قلوبنا حتى مهما رحلنا وتنقلنا.

إن الحنين ليس للأثاث ولا للجدران، بل لذلك الشعور بالأمان الأول الذي لا يتكرر.

وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا..
على رأي المجنون.

أذكر بيتنا القديم، كما قال نزار في حواره مع تلك الإسبانية:
ورأيتُ منزلنا القديمَ وحجرةً
كانت بها أمي تمدّ وسادي..
أنا كذلك أتذكر كل ملامح وزوايا بيتنا القديم الذي كان متواضعا، ومع ذلك ظلّ أوفى من شقق المدن الحديثة. كنت أجد فيه روائح طفولتي تتدلى من السقف كعناقيد العنب، كأن الجدران نفسها تحفظ صوتي وأنا طفل وأسترجع كل تفاصيل حياتنا السابقة.
قرأت مرة في دراسة عن الذاكرة المكانية نشرها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الباحثين وجدوا أن البيوت الأولى في حياة الإنسان تُخزَّن في مناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة العاطفية، ولهذا تبدو أقوى من غيرها في الوجدان.

 

حين نتحدث عن الديار أو البيوت فنحن نتحدث عن ألبومات حياة: ضحكات، بكاء، طقوس الصباح، مشهد النافذة، والأبواب القديمة التي تفتح على دهاليز القلب. ربما لذلك قال الشاعر الفرنسي بول فاليري إن البيت هو أول كون للإنسان كل شيء بعده مجرد امتداد.

 

لهذا، فإن البيوت التي تسكننا لا تموت حتى لو هُدمت. بل تتحول إلى قصائد، أو إلى صور في العقل، أو إلى رؤى في الأحلام.

في سيرته الأيام يقول طه حسين إن بيت طفولته في الريف ظلّ يزوره في المنام حتى وهو في باريس.

أعتقد كذلك أن بيوتنا ليست حجرا صلداً لكنها أوطان داخلية إن جاز التعبير.

 

كلنا نحمل بيوتا وديارا في صدورنا من حكايات وأصوات وألوان، نسكنها كلما ضاقت بنا الأمكنة.

والوفاء للبيت الذي يسكننا ليس بأن نعود إليه جسداً بالضرورة، بل بأن نحافظ على قيمه ومعانيه ونور أهله في أرواحنا وذكرياتنا معهم.

اقرأ أيضــــاً "على هامش العمر"

الأربعاء، 10 سبتمبر 2025

على هامش العمر

خواطر محمد ولد إمام


العمر ليس عدد السنين التي نجرها وراءنا كما يجر المسافر حقيبته الثقيلة، بل هو ما يفيض في الأيام من معنى.
كم من إنسان عاش ستين عاما وهو غريب عن نفسه، وكم من آخر عاش عشرين عاما لكنه ملأ الدنيا بأثره.
العمر أشبه بالنهر: بعضه ضحل لا يروي عطشا، وبعضه عميق تمخر فيه السفن. ك
ل يوم صفحة جديدة في دفتر العمر.
فمنا من يتركها بيضاء كأنها لم تكن، ومنا من يخط فيها جملة تبقى أبد الدهر.
قلت لصديق يسألني عن العمر: هو ما يبقى بعدك، لا ما يذهب معك.

الثلاثاء، 2 سبتمبر 2025

فن الرثاء!

 

 رثاء الوليد بن طريف.. حين تبكي الأخت شقيقها 

من بين أصفى الرثائيات وأشدها شفافية في اللفظ والمعنى، مرثاة الفارعة أخت الوليد بن طريف الشيباني الخارجي.
قُتل الوليد على يد القائد يزيد بن مزيد الشيباني، أحد قادة هارون الرشيد، وكان الوليد قد خرج على الدولة العباسية، فواجهه يزيد ببأسه وحيلته، وقتله وقطع رأسه.
حينها، انفجر قلب أخته شعراً، فأنشدت أبياتاً تُشبه النواح المقدس، تتفجّر حزناً ووجداً، تندب فيها أخاها الذي رأت فيه مجداً نادراً:

بتلِّ نباثا رسم قبرٍ كأنّه
على علمٍ فوق الجبال منيفِ
تضمَّن جوداً حاتمياً ونائلاً
وسَورة مقدامٍ وقلبَ حصيفِ

لقد رأت في أخيها قمراً انطفأ، وشمساً مالت إلى كسوف، وعاتبت الطبيعة على برودها، إذ ظلت أشجار الخابور مورقة كأن شيئاً لم يكن:

أيا شجر الخابور! مالكَ مورقاً
كأنّك لم تجزع على ابن طريف؟!


الرثاء.. حوار مع الغياب

الرثاء ليس مجرد بكاء على الميت، بل هو في كثير من الأحيان حوار مع القبر، ومساءلة  للحياة عن قسوتها. لقد فعل ذلك أبو الطيب المتنبي حين خاطب المنون: 
غدرتَ يا موتُ كم أفنيتَ من عددٍ
بمَن أصبتَ وكم أسكتَّ من لجبِ
وقوله في رثاء فاتك:

ولا ما تضمُّ إلى صدرها
ولو علمت هالَها ضمّهُ

وقال أبو تمام في ذات السياق:

إنّ الصفائح منك قد نُضِدتْ على
ملقى عظام ٍ– لو علمتِ – عظامِ

الرثاء يكشف هشاشتنا، ويفضح قسوة الكون في استمرار دورته، بينما قلوبنا تتفتت على الغياب.


ما آلم الفارعة لم يكن موت أخيها وحده، بل أن ترى الطبيعة ماضية في خضرتها، غير عابئة بأن ركناً عظيماً من العالم قد انهار. الشجر أخضر، والأنهار تجري، والسماء صافية… بينما قلبها وحده مظلم.

كأن الكون، ببروده هذا، يُذكّرنا بأن ما نفقده نحن لا يعنيه شيئاً.
إنه لغز الرثاء: أن تدرك أن الحزن شخصي، وأن العالم يواصل رتابته، وكأنك لم تخسر شيئاً.


ولعل بكاء الأخوات على إخوتهم يحمل نغمة خاصة، لا نجدها في غيره. نقرأ للخنساء فنبكي معها على صخر، كأنه أخونا نحن. نقرأ للفارعة فنحس أن دمها يختلط بالحبر.

إنه البكاء الذي يفتح فينا أعماقاً لم نكن ندري بوجودها.


ربما كان أعظم ما يتركه الرثاء فينا أنه يعيد ترتيب علاقتنا بالحياة. فلولا فقد الأحبة، لما تذكّرنا أن الدنيا هشيم تذروه الرياح. ولولا نزف الجراح، لما عرفنا كيف نشارك آلام الآخرين ونبتهل معاً إلى بارئنا.

ولولا صخب الشعراء الحمقى، لما أنصتنا بتوق إلى همس العظماء الذين تركوا كلماتهم لنا كأضواء بعيدة تهدينا في العتمة.


 الرثاء ليس فناً أدبياً فقط، بل هو مرآة تضعها الروح أمام وجهها لتسأل: من نحن؟ وما الذي يبقى بعد أن يذهب الأحبة؟

محمد ولد إمام.. الدوحة 2019

مزيد في الأدب


الاثنين، 1 سبتمبر 2025

الشعر والنحو: حين يصبح البيان ميزانًا

الشعر والنحو: حين يصبح البيان ميزانًا

لم تكن شواهد النحو الشعرية التي اصطفاها النحويون مجرد أمثلة لتوكيد القاعدة أو تأييدها تمثيلًا بعد درسها تجريدًا. لقد كانت هذه الشواهد تحمل وظيفتين، إحداهما جمالية تُبهر الذائقة وتفتح دروب الخيال، والأخرى أخلاقية تربوية، تبذر في النفس مكارم الشيم وتُنمّي شعور الانتماء والفخر.

فالشعر كان دومًا مرآةَ وجدانٍ جمعي، ورسولًا يتنقل من جيلٍ إلى جيل، لا يُستدعى لمحض الترويح، بل ليقوم بدور المُؤدب والمُعلّم والناقل لهوية الأمة. لذلك كان أدباء العرب ومُعلّموهم يُربّون الأبناء على حفظ الشعر، ويُلقّنونه لأبناء البيوت الرفيعة، حرصًا على بناء الشخصية واستقامة الروح، فالشعر عندهم غِراس القيم ونبعُ الفروسية والوفاء والعزة.

ولولا خلالٌ سَنّها الشعرُ ما درى
بناةُ العُلا من أينَ تُؤتى المكارمُ

وقد رُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "مُر من قِبلك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معاني الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب".

ويُروى عن معاوية قوله: "ينبغي للرجل أن يُؤدّب ابنه، والشعر أعلى مراتب الأدب"، بل زاد فقال: "اجعلوا الشعر أكثر أدبكم وأكبر همّكم".

انظر مثلًا إلى شاهدهم في توسط خبر "كان" بين اسمها وبينها، بقول السموأل:

سَلي -إن جَهِلتِ الناسَ- عنا وعنهمُ
فَلَيسَ سواءً عالِمٌ وَجَهولُ

فإذا أعجبك البيت، فتشت عن سياقه، فإذ بك أمام أبيات تفيض عزة:

تُعَيِّرُنا أنَّا قَليلٌ عَديدُنا
فَقُلتُ لَها: إِنَّ الكِرامَ قَليلُ
وَما قَلَّ مَن كانَت بَقاياهُ مِثلَنا
شَبابٌ تَسامى لِلعُلى وَكُهولُ
وَما ضَرَّنا أَنّا قَليلٌ وَجارُنا
عَزيزٌ وَجارُ الأَكثَرينَ ذَليلُ

ويصعد بالمعنى في أبيات تمثّل المجد في صورة جبلٍ شاهق:

لَنا جَبَلٌ يَحتَلُّهُ مَن نُجيرُهُ
مَنيعٌ يَرُدُّ الطَرفَ وَهُوَ كَليلُ
رَسا أَصلُهُ تَحتَ الثَرى وَسَما بِهِ
إِلى النَجمِ فَرعٌ لا يُنالُ طَويلُ
هُوَ الأَبلَقُ الفَردُ الَّذي شاعَ ذِكرُه
يَعِزُّ عَلى مَن رامَهُ وَيَطولُ

ثم يستطرد الشاعر في ضرب الأمثال، فيقول:

إِذا المَرءُ لَم يَدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ
فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ
وَإِن هو لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها
فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ

ويتابع بتفنيد خصومه من قبيلتي عامر وسلول:

وَإِنّا لَقَومٌ لا نَرى القَتلَ سُبَّةً
إِذا ما رَأَتهُ عامِرٌ وَسَلولُ
يُقَرِّبُ حُبُّ المَوتِ آجالَنا لَنا
وَتَكرَهُهُ آجالُهُم فَتَطولُ
وَما ماتَ مِنّا سَيِّدٌ حَتفَ أَنفِهِ
وَلا طُلَّ مِنّا حَيثُ كانَ قَتيلُ
تَسيلُ عَلى حَدِّ الظُباتِ نُفوسُنا
وَلَيسَت عَلى غَيرِ الظُباتِ تَسيلُ

ثم يأتي على ذكر النسب الأصيل:

صَفَونا فَلَم نَكدُر وَأَخلَصَ سِرَّنا
إِناثٌ أَطابَت حَملَنا وَفُحولُ
فَنَحنُ كَماءِ المُزنِ ما في نِصابِنا
كَهامٌ وَلا فينا يُعَدُّ بَخيلُ

ومن أبدع ما قال، حين يفتخر بقوة بيانه:

وَنُنكِرُ إِن شِئنا عَلى الناسِ قَولَهُم
وَلا يُنكِرونَ القَولَ حينَ نَقولُ
إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ
قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ

ويواصل وصفهم:

وَما أُخمِدَت نارٌ لَنا دونَ طارِقٍ
وَلا ذَمَّنا في النازِلينَ نَزيلُ
وَأَيّامُنا مَشهورَةٌ في عَدُوِّنا
لَها غُرَرٌ مَعلومَةٌ وَحُجولُ
وَأَسيافُنا في كُلِّ شَرقٍ وَمغرِبٍ
بِها مِن قِراعِ الدارِعينَ فُلولُ
مُعَوَّدَةٌ أَلّا تُسَلَّ نِصالُها
فَتُغمَدَ حَتّى يُستَباحَ قَبيلُ
سَلي إِن جَهِلتِ الناسَ عَنّا وَعَنهُمُ
فَلَيسَ سَواءً عالِمٌ وَجَهولُ

هذا هو الشعر حين يكون بيانًا وميزانًا. وحين تكون اللغة فيه رحمًا ينجب المجد، وسيفًا يصون الكرامة.
محمد ولد إمام.

الأحد، 24 أغسطس 2025

المختار السالم.. الشاعر والذاكرة الثقافية

 المختار السالم.. الشاعر والذاكرة الثقافية

 


ليس من السهل أن تكتب عن رجل يعيش الحرف ويتنفسه. وحين يكون هذا الرجل صديقا لك، فإن الكتابة عنه تصبح واجبا وامتنانا.
المختار السالم أحمد سالم ليس مجرد شاعر موريتاني بارز، بل هو ذاكرة ثقافية تمشي بيننا، تفتح دروبا وتضيء أخرى، وتترك أثرا لا يزول في مسيرة الكتابة العربية الحديثة.

 

منذ بداياته الأولى، حين أطلت مجموعته الشعرية سراديب في ظلال النسيان، كان واضحا أنه لا يكتب ليملأ فراغا، بل ليشق لنفسه ولنا دربا خاصا، يزاوج فيه بين لغة متينة ونَفَسٍ إنساني عميق. ومن ثم مضى، كما يليق بالشاعر الذي يعرف أن الشعر لا يقيم في بيتٍ واحد، ليقدم القيعان الدامية، وليفتح باب الرواية الموريتانية الحديثة بروايته اللافتة موسم الذاكرة، ثم وجع السراب التي وضعت بصمتها في وجدان القارئ. ولم يكتفِ بهذا المسار المزدوج، بل راح يُجدّد صلته بالشعر عبر دواوين مثل التغريبة وزمن الأنفاس المهجورة، ويتمرّد في قرن القافية، ويعانق الرمز والأسطورة في ملحمته السالمية، ويحدثنا بدفء اعتراف إنساني في ظلال الحروف حيث نتفيأ الشعور والشعر معا.

 

إن الحديث عن المختار السالم لا يقتصر على نتاجه الأدبي، على غزارته وتنوعه فحسب. فالرجل صديق نادر، يمد يده بسخاء للكتّاب الشباب، يفتح لهم أبواب النشر والظهور، ويشجّعهم بحفاوة صادقة. هو من ذلك النوع من المثقفين الذين لا تغرّهم الأضواء، بل يرون في نجاح الآخرين جزءا من نجاحهم الشخصي، عرفته دائم المبادرة، يسعى لترسيخ صوت موريتانيا الثقافي في المنابر العربية، ويدافع عن حرية الكلمة وعن ضرورة أن يكون للأدب مكان في قلب الحياة العامة.

 

إنه شاعر، نعم، لكنه أيضا كاتب مقالة لامع، وصوت صحفي ظل يكتب بجرأة في قضايا الثقافة والفكر والسياسة، ويربط الأدب بالواقع دون أن يفرّط في جماليات اللغة. وقد أسهم في إثراء المكتبة العربية بأعمال تجاوزت حدود موريتانيا، لتجد صداها في المشرق والمغرب، ولتثبت أن بلاد شنقيط قادرة على أن تُجدد صوتها وتقدّم للعالم أسماء تضاف إلى سجلها العريق.

 

المختار السالم، في النهاية، ليس فقط صديقا عزيزا؛ إنه مدرسة في الوفاء للكلمة، في الجمع بين الجرأة والإبداع، وفي الإيمان بأن الأدب رسالة لا تقل شأنا عن أي فعل من أفعال التغيير. وددتُ لو كنت حاضرا في تلك الأمسية الأخيرة التي جمعت محبيه في بيت الشعر مع تجاربه المثمرة، لكنني مطمئن أن التواصل والاتصال بيننا لا يحتاج إلى مكان ولا زمان، فنحن على البعد مقتربون، ورسُل القلم بينا تترى، ثم إنني أجده في كل روح ألهمها، وفي كل يد شجعها على حمل القلم والمضي في طريقه.

حيِّ عني يا شعرُ بالتنويهِ
سادنَ الحرفِ ذا المقام النبيه
في سراديبه معانٍ تجلّت
وتجلى الإبداعُ إذْ بانَ فيه
وتجلى فهمٌ سديدٌ سريعُ
راكبٌ متنَ لاحقٍ ووجيهِ
في ظلالِ الحروفِ نبعٌ من الضو-
ءِ وفيها بـــــدائعُ التـــشــــبـــيهِ


محمد ولد إمام.. أغسطس 2025.. الدوحة - قطر

الاثنين، 11 أغسطس 2025

خلوها تنظف.. حملة لحماية موريتانيا من فوضى وسائل التواصل.. ألا أين المحامونا؟

دعوة عاجلة لتنظيف الفضاء الرقمي



هذه دعوة ونداء عاجل للجميع وبالأخص للمحامين والجهات التنفيذية والقضائية والرقابية، من أجل تنظيف مجالنا الرقمي حفاظا على مجتمعنا وقيمه وعلى صحة أفراده النفسية خاصة الأطفال وكبار السن.. أمام هذه الفوضى العارمة من مقاطع خادشة وصور خليعة وصوتيات مريعة!
لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى.. ولم نعد نستطيع أن نتابع أخبار أصدقائنا وعائلاتنا ولا أن نتواصل معهم على هذه المواقع التي يمكن أن توصف بكل شيء إلا أنها "اجتماعية" دون أن نتعثر بصوتية إباحية أو صورة خادشة وألفاظ خارجة ومنشورات لا تليق!

غياب الرقابة على المحتوى الحساس

فلا رقابة ولا رقيب على مجالنا التواصلي الرقمي، حتى الرقابة الآلية على سوئها، ليست متاحة لنا لأن أغلب هذا المحتوى الخارج يكون باللهجة الحسانية وبالتالي لا تلتقطه خوارزميات الرقابة في هذه المواقع!

أثر الفضاء المفتوح على الوعي والمجتمع

إننا نعيش اليوم في فضاء لا سقف له ولا جدار. الكلمات تعبر من شاشة إلى وعي غر، والصورة لا تعتذر حين تقتحم حياة طفل لم يتعلم بعد معنى حدود النظر. ليس الحديث عن شطحات فردية متفرقة، بل عن منظومة بث يومي متواصل تعيد تشكيل المزاج العام، وتؤثر في الصحة النفسية، وتزرع الفرقة بين فئات المجتمع من حيث لا نرى. لذلك يصبح السؤال أخلاقيا وقانونيا معا: كيف نضع حواجز واقية تحمي الأطفال والمراهقين وكبار السن، وتبقي الفضاء الرقمي مجالا للمعنى لا منجما للفوضى؟

التنمر الإلكتروني وأضراره النفسية

وإذا نزلنا من الإجمال إلى التفصيل، فالتنمر الإلكتروني واحد من أكثر الممارسات إيذاء. وتربط دراسات حديثة بين التعرض للتنمر عبر الإنترنت وبين ارتفاع احتمالات أعراض الاكتئاب، والقلق، وحتى التفكير الانتحاري في بدايات المراهقة. ليست المسألة “صلابة شخصية” بقدر ما هي نمط تعرض مستمر لمقولات جارحة وصور مهينة ومعايرة علنية تبث على مدار الساعة. هذا النمط يترك أثرا تراكميا ينعكس على الأداء الدراسي، وعلى تقدير الذات، وعلى القدرة على بناء علاقات آمنة.

خوارزميات الترويج وتأثيرها على الخطاب العام

ثم يأتي الخطر الذي لا نحب الاعتراف به: خوارزميات الترويج. ليست المنصات “محايدة” حين تمنح المحتوى الأكثر إثارة وغلوا فرصة الظهور المتكرر. فقد رصدت بحوث جامعية حديثة كيف تتكفل بعض الخوارزميات بتضخيم محتوى عدائي ومخل خلال أيام قليلة، فتتحول نبرة الازدراء والسخرية والتمييز إلى “النمط السائد”، ومعها تنزلق المقاييس الأخلاقية من غير أن نشعر. هذه الحلقة المفرغة لا تؤذي الفتيات والفتيان فقط، بل تغير لغة الحوار العام وتضغط على السلم الاجتماعي.

من خطاب الكراهية إلى العنف الواقعي

وليس هذا مجرد مسألة ذوق، فلدينا شواهد أنظمة كاملة انفلت فيها خطاب الكراهية حتى صار جسورا نحو العنف الحقيقي. ففي تقرير موسع لمنظمة العفو الدولية حمل خوارزميات منصة فيسبوك جزءا من المسؤولية عن تضخيم خطاب التحريض الذي مهد لجرائم ضد أقلية الروهينغيا في ميانمار عام 2017، وهو مثال صارخ على قدرة البنية التقنية، حين تدار بمنطق الربح المجرد، على تغذية الكراهية بما يتجاوز “المعارك الرقمية” إلى معارك واقعية على الأرض. لسنا في ميانمار، لكن الدرس أخلاقي وتقني: ترك المنظومات بلا فرامل، مع اقتصاد انتباه يكافئ الشخص الأشد ضجيجا، يعرض أي مجتمع هش للانزلاق.

انعكاس الأذى على كبار السن

ومن زاوية السن، تشير بيانات حديثة إلى استمرار معدلات ملحوظة من الوحدة والانعزال عند من تجاوزوا الخمسين، خاصة مع تدهور الصحة الجسدية أو النفسية. في البيئات ذات الروابط الاجتماعية التقليدية، إذ قد يتحول الاعتماد المفرط على الشبكات إلى إحساس أعمق بالانعزال إذا كانت التفاعلات سطحية أو مؤذية.
إن العنف اللفظي لا يجرح الأطفال وحدهم، بل يضغط على كبار السن أيضا، ويزيد هشاشة.

تآكل الأعراف الاجتماعية في الفضاء الرقمي

إن مجتمعنا الموريتاني متعدد الشرائح والقوميات والقبائل واللغات، اتفق تاريخيا على أعراف راسخة من التصافي، لكن الفضاء الجديد يخلط بين الرأي والشتيمة، وبين النقد والتحريض، ويظهر الاختلافات كأنها شقوق لا تردم.
إن المؤثر الذي لا يعنيه سوى زيادة المتابعة والرعايات الإعلانية، قد يختار الأسهل: من صدمة لغوية ومحتوى خادش وإيحاء طبقي أو قبلي، لأن “الترند” لا يكافئ التوازن بل يفضل الحدة، ومع غياب أدوات إنفاذ محكمة، تتكرس لغة يومية تضعف الثقة بين المكونات، وتؤثر في الأطفال والمراهقين قبل غيرهم.

سوء استخدام أدوات الضبط الرقمي

قطعت الدولة الإنترنت المحمول أياما خلال الانتخابات ونتائجها وخلال أحداث الفوضى الشرائحية وسبق أن أوقفت الخدمة عقب فرار سجناء وتصاعد احتجاجات، ما يكشف قابلية الأدوات الرقمية للتسييس المعاكس: بدل حماية الفضاء من المحتوى المؤذي للأطفال أو التحريض على الكراهية، يعاقب الجميع بالإغلاق العام. هذا ليس تنظيما، بل تعطيل يصيب الاقتصاد والمواطنين معا، ويبقي المشكلة الأخلاقية بلا حل.

قصور التشريعات الحالية

في المقابل، توجد نصوص فضفاضة حول “الأخبار الكاذبة” استخدمت لتجريم التعبير العام، من غير بناء منظومة متوازنة لحماية القاصرين ولمكافحة الأذى الرقمي المباشر. الإصلاح الحقيقي لا يكون بقمع شامل ولا بتساهل كامل، بل بقانون واضح يعرف الضرر القابل للقياس ويلزم المنصات والأفراد معا بالمسؤولية.

حماية الطفولة من الأذى الرقمي

على مستوى حماية الطفولة، تذكرنا اليونيسف بأن المخاطر لا تقتصر على الاستغلال الجنسي أو التحرش المباشر، بل تمتد إلى كل أنماط العنف اللفظي والمحتوى المؤذي الذي يضعف الشعور بالأمان. والأبحاث المقارنة تؤكد أن التعرض المنتظم للخطاب العدائي يقلص التعاطف ويزيد القابلية للوصم، ويغذي الاستقطاب بين الطبقات والفئات. هذا ليس “تشددا أخلاقيا”، بل قاعدة نفسية: ما يتكرر يترسخ، وما يطبع في الخلاصات اليومية يصبح “المعيار الجديد”، ومن هنا يبدأ التصدع في السلم الأهلي.

خطوات الإصلاح المقترحة

ماذا نفعل؟
نحتاج إلى مزيج ذكي من التربية الرقمية، والمساءلة القانونية، والتزامات المنصات. من أجل العمل على تقييد وصول القصر وإزالة الميزات الإدمانية وتقوية أدوات الضبط العائلي وإتاحة بيانات شفافة للباحثين وصناع السياسات.

تشريع وطني متوازن

على مستوى التشريع الوطني، يمكن سن قانون واضح يجرم بدقة: نشر المحتوى الخادش الموجه للأطفال والتهديد والابتزاز الرقمي والإهانة الممنهجة المبنية على الأصل أو القبيلة أو العرق أو اللغة والتحريض على العنف.
مع هذا، يحتاج القانون إلى توازن يحمي حرية التعبير ويصون النقد المشروع، ويخضع القرارات القضائية لاختبارات الضرر الحقيقي لا الانزعاج الذوقي.

مواثيق سلوك للمؤثرين

اعتماد “مواثيق سلوك” للمؤثرين والشركاء التجاريين: لا إعلان ولا رعاية لمن يخرق هذه المعايير مرارا ولا أرباح من مقاطع مخالفة.

هيئة مستقلة للشكاوى الرقمية

إنشاء هيئة مستقلة للشكاوى الرقمية تتلقى بلاغات الأسر والمعلمين وتصدر قرارات ملزمة زمنيا بحق الحسابات المخالفة داخل موريتانيا، مع آلية استئناف قضائي سريعة تضمن العدالة وعدم التعسف.

التربية على الاحترام

على المجتمع والأسرة والمدارس دور لا يستغنى عنه من إدماج “التربية على الاحترام” في المناهج: كيف نفرق بين النقد والإهانة، بين حرية الرأي والتحريض؟ هذه مهارات مواطنة رقمية، وليست كماليات.

منصات مجتمعية داعمة

إنشاء منصات مجتمعية محلية داعمة: خطوط مساعدة نفسية سرية للشباب المتعرضين للتنمر، وجلسات تدريب للأهل حول الضبط الأبوي، ومواد مبسطة بالعربية والحسانية حول الوقاية والإبلاغ.

البحث والقياس

شراكات مع الجامعات والباحثين لقياس المؤشرات: معدلات التعرض، أنماط الأذى، أثر السياسات الجديدة. ما لا يقاس لا يحسن.

ضمان الشفافية وعدم استغلال القوانين

أعرف أن البعض سيقول: “سن القوانين قد يستغل ضد الرأي المخالف.” والرد أن العلاج ليس في الفوضى، بل في دقة التعريفات والشفافية والرقابة القضائية المستقلة. نحن لا ندعو إلى شرطة للأفكار، بل إلى معيار أخلاقي قانوني يحمي الطفل والناشئ وكبير السن من خطاب يؤذي صحتهم وسلام المجتمع، ويحمل المنصات ومن يربحون منها كلفة الضرر لا جائزته.

في النهاية، الفضاء الرقمي مرآة مكبرة لما فينا: إذا تركناه لمنطق الربح الأعمى، سيعيد تدوير أسوأ ما فينا. وإذا وضعنا له حدوده الأخلاقية والقانونية، صار فرصة للتعلم والتواصل ونشر الجمال. موريتانيا، بكل ألوانها ولهجاتها وقبائلها وقومياتها، جديرة بفضاء يقوي الوئام لا يجرحه، ويصون الطفولة بدل أن يضعها وجها لوجه مع أكثر ما في العالم قسوة. سن قوانين رادعة دقيقة، وتنفيذ عادل لا انتقائي، وتربية رقمية مستمرة، وشراكات مع منصات تتحمل مسؤوليتها—هذه ليست عدة رقابة فحسب، بل وصفة حماية لسلمنا الاجتماعي، اليوم قبل الغد.

الثلاثاء، 5 أغسطس 2025

هل بدأت أمريكا تراجع دعمها "الأعمى" لإسرائيل؟

أسئلة غير مسبوقة بدأت تظهر من قلب اليمين الأمريكي.. والإجابة قد تغيّر كل شيء.

 

منذ منتصف التسعينيات، سيطر خطاب اليمين الإسرائيلي على المشهد السياسي في تل أبيب، مدفوعاً بعناد نتنياهو وحكوماته المتعاقبة، وبتبنٍ صريح لمشروع تطهيري لا يكتفي بإقصاء الفلسطينيين، بل يسعى إلى محوهم من الوجود تماما.

 

وقد شكل الدعم الأمريكي، في عهد ترمب ثم بايدن، مظلة آمنة لهذا المشروع.

إدارة بايدن، رغم خطابها المختلف، حافظت على مبدأ "الدعم غير المشروط"، وأغمضت عينيها عن الجرائم اليومية، مُكرسة الغطرسة الإسرائيلية أمراً واقعا.

 

لكن اللافت أن التململ بدأ يتسلل من قلب اليمين الأمريكي ذاته.

شخصيات مؤثرة مثل كانديس أوينز وتاكر كارلسون وجو روغان وغيرهم، صاروا يطرحون أسئلة كانت من قبل من المحرمات:

 

لماذا تواصل أمريكا دعم كيان يمارس التطهير العرقي؟

 

كيف يمكن الحديث عن حقوق الإنسان، مع التغاضي عن إبادة جارية أمام الكاميرات؟

 

ولماذا يتم تصدير صورة إسرائيل كضحية، بينما هي الجلاد؟

 

هذه الأسئلة ليست صادرة عن اليسار، بل من دوائر يمينية طالما شكلت عمقاً استراتيجياً لدعم إسرائيل.

وهو ما يعيد إلى الأذهان إرهاصات التحول الذي بدأ مع حراك الجامعات ضد حرب فيتنام، حين انتقلت الأسئلة من الهامش إلى صميم الرأي العام.

 

الحراك الطلابي الأمريكي اعتصم تضامناً مع غزة، وجيل جديد بدأ يربط بين ما يجري هناك، وما عاشته أمريكا في تجاربها الإمبريالية الأخرى.

تلك الأسئلة لم تعد تهم الأخلاق فقط، بل تمس صورة أمريكا نفسها، وموقعها من التاريخ.

 

وقبل هذا التحول داخل اليمين، كان الحزب الديمقراطي قد شهد بوادر تغيير قادها جيل مثل إلهان عمر، وألكساندرا أوكاسيو كورتيز، وبيرني ساندرز، الذين وسّعوا حدود الخطاب السياسي، ورفضوا تسليع المعاناة الفلسطينية.

 

أما الصورة التي حاول نتنياهو ترسيخها، بأن إسرائيل تمثل داوود وأعداءها يمثلون جالوت، فقد انعكست تماما.

اليوم، يبدو أهل غزة، المحاصرون والمجوعون والمذبوحون، هم داوود الحقيقي، في حين تقف إسرائيل بكامل قوتها العسكرية والنووية في موقع جالوت الوحشي.

 

وهذه المفارقة تحديدا، هي ما بدأ يقض مضجع العقل الأمريكي المحافظ.

فمواصلة رفض الحلول السياسية، وتغذية الحروب العبثية في الشرق الأوسط، لم يعد يقرأ كـ"مصلحة"، بل كغباء سياسي لا يغتفر.

 

ما كان يعد سابقاً من المسلمات، صار اليوم مادة لنقاش جدي داخل اليمين الأمريكي نفسه.

وما كان يصدّر كـ"تحالف قيمي"، صار عبئاً أخلاقياً وسياسياً في نظر كثيرين.


محمد ولد إمام

الاثنين، 7 يوليو 2025

أنخاب أصائلنا المفقودة..

 


لم تكن العصاري (الدحميس) في طفولتنا وصبانا كهذه العصاري التي نراها اليوم…

لا أعني غروب الشمس وحده، ولا احمرار السماء على كثبان الرمال، ولا نسيم المساء البارد وهو يمرّ على وجوهنا المتعبة من قيظ القائلة.

 

إنما أعني ذلك الإحساس الدافئ بسكون المساء، حين يهدأ كل شيء، وتنفرج الروح، ويستكين الجسد.

ذلك الإحساس بأنك تقف على أعتاب ليلة قادمة، لا لتقاوم، بل لتستريح: لتصغي، لتسامر، لتحتسي الشاي (الذهبي) بهدوء، لتعيش العمر بلا صخب ولا تكلّف ولا نفاق.

 

لماذا كانت الأصائل أبهى؟

لِمَ كانت العصاري أطول وأكثر بهجة، تتسع للحديث واللعب والأنس والمنجزات الصغيرة التي تملأ القلب بالرضا؟

 

أتذكّر جيدًا استراقي السمع من مجلس الكبار عصرا وأول مرة أستحق كاس شاي مع الجماعة..

كنت أعدّه نصرا واعترافا بالنضج، نجتمع حوله ونحن نسمع أحاديث الكبار، وننصت للحكايات عن المواشي وضالتها وحديث الحاسي طبعا.. ثم قبيل الغروب نتمشى خارج الحي ونراقب كيف تسدل السماء ستائرها الزرقاء شيئًا فشيئًا.

كانت القرية كلها كأنها تودع الشمس ساعة مغيبها.

 

كانت قريتنا — على أطراف الصحراء — قرية عصاري نظرا لاشتداد الحر في الهواجر.

 

كانت البركة أعمق، والأنفس أصفى، والحياة أيسر.

 

لكن، حين صار الناس عبيد هواتفهم، اختلت المواعيد، وضاعت البركة.

 

اليوم، جاءت فجوة عميقة بين هذا كله وبين تعليم متراجع، وأجهزة ذكية بأيدٍ غير مؤهلة، فاختلت الموازين، وصار كثيرون يستعملون التقنية للفضح والانفصال بدل الوصل والبناء.

 

إن الأصيل سر صناعة الليل، وصناعة الليل هي سر صناعة العمر، وصناعة العمر هي المجد النافع الباقي.

 

الأصيل نعمة من نعم الله، كلما رأيناه تذكّرنا نور الله ومحبته وهي تفيض على القلوب.

وقديما تغنت العرب بالأصيل والأصيلال..

وقال أبو الطيب:

كأن أوقاتها في الطيب آصال.. فجعلها مضرب المثل في طيبها..

وقد عنونت أحد دواويني الشعرية بعنوان "أنخاب الأصائل"..

اللهم بارك لنا في أوقاتنا، واكفنا شرّ من لا يعرفون للغروب هيبة ولا للسكينة معنى.

 #محمدولدإمام #محمد_ولد_إمام 

#

الأحد، 29 يونيو 2025

الكاتب وأدواته.. عشق ممتد




 الكاتب وأدواته.. عشق ممتد

أذكر اليوم الذي وقفت فيه أمام رف وراقة الحي، كانت عيناي تتنقل بين صفوف الدفاتر المرصوصة كجنود في طابور الصباح. كان قلبي يخفق وأنا أمرر أصابعي على أغلفة الجلد الناعم، وأتنشق رائحة الورق البكر الذي لم تلمسه بعد كلمة واحدة. في تلك اللحظة، أدركت أنني مصاب بداء جميل لا شفاء منه: الهيام بأدوات الكتابة.

لست وحدي في هذا العشق الأبدي. فنحن - معشر عاشقي الورق والحبر - قبيلة منتشرة في كل مكان، نتنقل بين المكتبات كالنحل بين الأزهار، نجمع الدفاتر والأقلام بشغف لا يفهمه الكثيرون.

أتذكر دفتري الأول، ذلك الكنز الأزرق بغلافه المخملي وقفله الذهبي الصغير. وقد احتفظت به سنوات طويلة حتى بعد أن امتلأت صفحاته بخربشات المراهقة وأحلام الطفولة. كان ذلك الدفتر أول رفيق حقيقي لي، يحتضن أسراري ويحفظ أولى محاولاتي في نظم الشعر.

ومع الأيام، تطور هوسي ليشمل كل ما له علاقة بالكتابة. أصبحت أقتني الأقلام من كل مكان أذهب إليه، فكل قلم يحمل في طياته قصة مختلفة وإمكانيات لا محدودة. وكم من مرة وجدت نفسي في مكتبة أتفحص أقلام الحبر الفاخرة، أزنها في يدي وأتخيل الكلمات التي ستنساب من خلالها على الورق.

وأي متعة كانت تلك التي أجدها في بري القلم الرصاص بالمبراة المعدنية! أدير القلم ببطء وأستمع لذلك الصوت الخشن الجميل، وأراقب خصلات الخشب المبرومة وهي تتساقط كأوراق الخريف. ثم أختبر حدة السن بوخزة صغيرة في ظهر يدي، لأتأكد من جودة البري.

أما الكتب، فحدث ولا حرج عن عبقها الفريد. تلك الرائحة التي تخرج من بين الصفحات عندما تفتح كتاباً جديداً لأول مرة، أو ذلك العطر العتيق الذي ينبعث من الكتب القديمة في المكتبات الأثرية. كان جدي - رحمه الله - يملك مكتبة صغيرة في بيته، وكنت أقضي ساعات طويلة أتنقل بين صناديقها العتيقة، وربما غضبت فأتلفت بعضها لا بغضا لها بل انتقاما من نفسي ومن الموقف.

نحن اليوم محاطون بالشاشات الباردة اللامعة، نكتب على لوحات مفاتيح لا روح فيها، ونرسل نصوصنا بضغطة زر واحدة. اختفت تلك اللحظات السحرية حين كنا نكتب المسودة الأولى بخط اليد، ثم ننقلها بخط أوضح، ونعدل عليها مراراً وتكراراً قبل أن نرضى عن شكلها النهائي.

أذكر في سنوات الألفين، كنت أنتظر أسابيع لأرى قصيدتي منشورة في أحد المواقع الأدبية. كان ذلك الانتظار جزءاً من متعة الكتابة، يعطي للنص قيمة وثقلاً لا يمكن تحقيقهما في زمن النشر الفوري اليوم.

كانت لدينا أجندات سنوية، نملأها بمطالع القصائد والأفكار العابرة والاقتباسات من قراءاتنا. كانت تلك الأجندات كنوزاً حقيقية، أرشيفاً شخصياً لأحلامنا وطموحاتنا الأدبية.

اليوم، أجد نفسي أكتب هذه الكلمات على شاشة تؤذي عيني بضوئها الأزرق، تقاطعني الإشعارات كل دقيقة، وتهدد بالانطفاء إذا لم أحركها لفترة. لا أشعر بنفس الحميمية التي كنت أجدها مع الدفتر والقلم.

لكن رغم كل هذا التطور التكنولوجي، ما زلت أحتفظ في درج مكتبي بمجموعة من الأقلام والدفاتر. فقد أحتاج إليها يوماً ما، عندما تنقطع الكابلات أو تتعطل الشاشات، أو ربما عندما أشتاق فقط لتلك المتعة القديمة في رسم الحروف باليد، وسماع حفيف الورق تحت القلم.

نحن، معشر عاشقي أدوات الكتابة، مهددون بالانقراض حقاً، لكننا لم نمت بعد. وما دامت هناك قصة تستحق أن تُحكى، وقصيدة تستحق أن تُكتب، فسيبقى للقلم والورق مكانهما في قلوبنا وبين أيدينا.

 

محمد ولد إمام:


https://www.aljazeera.net/blogs/2025/6/28/%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a7%d8%aa%d8%a8-%d9%88%d8%a3%d8%af%d9%88%d8%a7%d8%aa%d9%87-%d8%b9%d8%b4%d9%82-%d9%85%d9%85%d8%aa%d8%af