لو
تأملت يومك حق التأمل، لاكتشفت أنك لم تعش منه إلا لحظات قليلة.
النوم
يأخذ ثلثه، والانتظار يأكل ثلثه الآخر، والباقي تلتهمه الشاشات والمجاملات والمهام
الصغيرة التي لا تترك فينا أثرا.
الحياة
الحقيقية، إذن، ليست في عدد الساعات، بل في الوعي الذي نحياه في تلك الساعات.
كل
لحظة نعيشها هي استثمار في أنفسنا، إما يضاعف قيمتنا أو يستهلكها.
هناك
أعمال تتراكم، وأخرى تتبدد.
القراءة،
التأمل، العمل الصادق، هذه كلها تثمر مع الأيام.
أما
الفراغ أو والانشغال الدائم بالتوافه دون معنى، فهو كما قال أحد الحكماء: «كمن
يحرث البحر».
وقد
أقسم الله تعالى بالزمن فقال: «والعصر، إن الإنسان لفي خسر»، لأن الخسارة الكبرى
ليست في المال ولا في الصحة، بل في الوقت الذي يضيع دون أن نصنع به حياة.
قال
الحسن البصري: «يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك».
وكل
يوم يذهب دون أن يثمر خيراً أو معرفة أو أثرا، إنما هو قطعة من وجودنا تتساقط بصمت
في بئر النسيان.
في
هذا العصر المتسارع، أصبحنا نحسن إدارة أجهزتنا أكثر من إدارة أعمارنا.
نضبط
المنبهات والمواعيد، نتابع المهام والرسائل، ونغفل عن حقيقة بسيطة: أن الساعة التي
تمضي لا تعود، وأن أخطر أنواع الغياب هو الغياب عن لحظتك.
قال
أبو الطيب المتنبي: "وذي الدار أخون من مومس
وأخدع من كفة الحابل
تفانى
الرجال على حبها
وما
يحصلون على طائل"
فالزمن لا ينتظر من أضاعه، ولا يرحم من سوف به.
نحسب
الربح والخسارة في المال، وننسى أن رأس مالنا الحقيقي هو الدقائق التي نحياها
بصدق.
قال
النبي ﷺ: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
فما
أكثر من يبدد وقته في طلب ما لا يزيده إلا فراغاً أكبر مما بدأ به.
كان
المفكر الأمريكي إرنست بيكر يعيش تجربة مختلفة مع الزمن.
في
سنواته الأخيرة، أصيب بمرض عضال، وبينما كان الجسد يضعف، اشتعلت فيه الرغبة في
الفهم.
كتب
وهو على فراش المرض كتابه الشهير «إنكار الموت»، ليقول فيه إن الإنسان لا يهرب من
الفناء بالإنكار، بل بالمعنى.
رأى
بيكر أن الإنسان، في وعيه أو لا وعيه، يسعى إلى ما سماه «مشروعات الخلود» — تلك
الأعمال التي تجعل للحياة ظلا بعد الرحيل: كتاب يخلد، علم ينتفع به، ابن صالح،
فكرة تورث، أو حب يترك أثره في الناس.
وكان
يقول: «كل شيء في حياتنا تتحدد قيمته بمدى قدرته على البقاء بعد موتنا».
تأملْ
هذا المعنى، وستدرك أنه ليس بعيدا عن جوهر الإسلام نفسه، إذ يقول الله تعالى:
«إنا
نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم».
إنها
الآثار إذن... ما تبقى منك حين لا يبقى منك شيء.
يقول
الفيلسوف الآخر: «المشكلة ليست في أن وقتك قليل، بل في أنك لا تعرف كيف تنفقه»، لم
يكتشف جديداً بقدر ما أعاد إلينا ما نسي من الحكمة القديمة:
أن
الوقت ليس وعاءً نملؤه، بل هو حياة تزهر كلما سقيت بالنية والمعنى.
قال
ابن القيم رحمه الله: «الوقت هو حياتك، وهو ظلك الراحل عنك».
وكل
لحظة تمر هي خطوة نحو الغياب، فإما أن تترك وراءك صدى، أو فراغا.
في
نهاية المطاف، لا أحد ينجي نفسه من الموت، لكن بعض الناس ينجون من النسيان.
يموت
المرء مرتين: حين يُوارى في التراب، وحين يُمحى أثره من الذاكرة.
حين
أنظر إلى الوراء، أرى أن أجمل أوقاتي لم تكن تلك التي ضحكت فيها كثيرا، بل تلك
التي فهمت فيها شيئا عن نفسي أو عن العالم.
تلك
اللحظات التي فهمت فيها معنى غير نظرتي، أو قرأت فيها كتاباً أنار بصيرتي.
تلك
اللحظات كانت زمناً خالصا للروح، لا يقاس بالساعات بل بالأثر.
يقولون:
«الوقت سيف، إن لم تقطعه قطعك».
لكن
السيف ليس قاتلا بالضرورة، فقد يكون نحاتا يصوغك مع الأيام.
وكل
ما عليك أن تفعل هو أن تمسكه بوعي، وأن تعرف فيم تستهلك عمرك.
الحياة
لا تقاس بطولها، بل بكثافتها.
لسنا
بحاجة إلى مزيد من الوقت، بل إلى مزيد من المعنى فيما نفعل بالوقت الذي بين
أيدينا.
فالذين
عرفوا قيمة الزمن لم يعيشوا أعماراً أطول، لكنهم عاشوها بشكل أعرض، كأنهم استخرجوا
من كل لحظة لبها الصافي وتركوا القشرة للآخرين.
فيا
أصدقاء، لنجعل من وقتنا وقفا لمعنانا، ومن أعمارنا مشروعات خلود.
ولنتذكر
أننا لن نحاسب على كم عشنا من الزمن بل على كيف عشنا ذلك الزمن.
فمن
أحسن استثمار وقته فقد كتب فصولا من الخلود في هامش الفناء.
محمد ولد إمام

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق